في عهد سليمان باشا الكبير (1780 – 1802) والي بغداد من قبل العثمانيون، وأكبر أمراء المماليك في العراق، ضربت المدينة بموجة شديدة من القحط تسببت في غلاء واسع، عجز أمامه الفقراء عن شراء المواد الغذائية حتى مات الكثير منهم جوعا، بينما قرر الباقون على قيد الحياة إعلان الثورة ضد الحكام العثمانيون، فكانت عاقبتهم قتلًا وصلبًا ونفيًا.
كان سليمان باشا ذاك قد وصل إلى حكم بغداد بالحيلة وفرض الأمر الواقع على الدولة العثمانية في إسطنبول. يقول المؤرخ العراقي عباس العزاوي في كتابه «تاريخ العراق بين احتلالين»: «عاش سليمان باشا في العراق من حين كان مملوكا. ثم تولى منصب كتخدا (نائب) فصار مرجع الخاص والعام واستمر أمدا طويلا، ولم تجربه الدولة التجربة اللائقة (أي لم تختبر قدرته على الحكم)، ولكنها طمعت في دراهمه فعهدت إليه بإيالة البصرة مختارة. ومنحته رتبة الوزارة بأمل إبعاده عن بغداد، وكانت هدفه الأساسي. ولكن سليمان باشا لم يلبث أن قاد عسكره إلى مدينة السلام وداهمها بعد هزيمة حاميتها العسكرية. ثم كتب إلى الدولة العثمانية بما جرى وأبدى أنه صادق مخلص وألح في الطلب ووعد بالقيام بما يطلب منه، وبهذا لم تر إسطنبول بدّا من الإذعان قسرا».
إقرأ أيضاً : ديسمبر 1917.. عندما سلم العثمانيون القدس للصهاينة دون إطلاق رصاصة
وبعد 6 سنوات من حكمه، جاء القحط المذكور أعلاه ليختبر علاقة سليمان بأهالي بغداد، خصوصا الطبقات الدنيا منهم. يقول العزاوي: «وفي ربيع الثاني من سنة 1200 هـ/ 1786 لم يقع مطر و لا حصل نبت فتولد القحط حتى بلغت قيمة وزنة الحنطة سبعة قروش أو ثمانية. ووزنة الشعير خمسة أو ستة. لكن الضعفاء لم يتيسر لهم الشراء فنالهم عناء كبير ومات أكثرهم جوعا، ودام سنتين ونصف السنة. وفي آخرها صار الطاعون وفي هذه الحادثة وزع الوزير على الأهلين مخازن الأطعمة بأقل من السعر المقرر ولم يبق إلا ما يكفي الحاجة. ومع هذا هاجت الناس وماجت في كل أنحاء بغداد في الحلة والحسكة والأطراف الأخرى فحصل ضيق وزاد الخطر. فلا يمضي يوم إلا والغلاء في ازدياد فصار الناس يأكلون الكلأ و يمتصون الدماء ويتناولون ما هو منهي عنه لما نالهم من السغب وأصابهم من الضعف».
ولما طال الجوع، قرر فقراء بغداد رفع راية العصيان والثورة طلبا لما يقيم الأود. ولكن سليمان باشا ورجاله اعتبروا الثائرين مجرد مندسين، تم دفعهم للتمرد من قبل منافسيه القدماء على السلطة في العراق. يقول العزاوي: «وفي هذه المرة هاج لفيف من الناس لما نالهم من سغب فحمل ذلك على البغي والعدوان، وعدوا هؤلاء القائمين بقية من أولئك المناوئين أيام عبد اللّه باشا وحسن باشا. و الحال أنهم قاموا من جراء الجوع الذي أصابهم وما نالهم من ضجر، فحملوا علم الشيخ عبد القادر الكيلاني، وأشعلوا الفتنة وهجموا بغتة على دار الحكومة وقالوا: (إن عباد اللّه ماتوا جوعا، أنقذونا بتدبير ناجع عاجل!)».
لكن والي بغداد لم ينقذهم، وإنما اختار السلاح لقتالهم، وكأنهم جيش مدجج بالسلاح. يقول عباس العزاوي: «ولما وصلت مقدمة هذا الجمع إلى قرب سراي الكخيا (نائب الوالي) خرجت عليهم ثلة من الخيالة في الحال، وبناء على أمر الوزير صدهم الجيش فقابلوا الأهلين وحملوا عليهم. ولم تمض طرفة عين إلا وكسروهم وشتتوا شملهم وقتلوا بعضهم وألقي القبض على البعض الآخر واختفى الباقون ومن قبض عليهم صلبوا في الحال ليكونوا عبرة. وكذا قبض على باقي من كانوا فجلد بعضهم بالعصي ثم أبعدوا إلى جهة البصرة».