أوجه الحقيقة – تركيا
عندما سلم العثمانيون القدس للصهاينة، ما حدث في في مساء يوم السبت 8 ديسمبر 1917، أرسل عزت بك المتصرف (الوالي) العثماني لمدينة القدس طلباً إلى مفتي المدينة كامل أفندي الحسيني، ووكيل رئيس بلديتها حسين سليم أفندي الحسيني. وشدد المبلغون لرسالة عزت إلى المسؤولين العربيين بضرورة التوجه الفوري إليه دون تباطؤ.
تحرك كامل أفندي مع حسين أفندي بسرعة إلى حي الشيخ جراح، حيث دار الحاكم العثماني. وما إن دلفا إلى باحة المنزل حتى التقاهما عزت، الذي بدت عليه أمارات التوتر والقلق. رحب بهما على عجل، ثم توجهوا جميعًا إلى مكتبه الخاص. ودون مقدمات، أخبرهما بأنه سينسحب من القدس مع القوات التركية المرابطة فيها. ثم سلم مفاتيح المدينة ووثيقة تسليمها إلى حسين أفندي ليدفعها بدوره إلى القوات الإنجليزية المحاصرة للمدينة.
أسقط في يد المفتي ورئيس البلدية. وعاينا سويًا خروج عزت بك مع العساكر الأتراك من القدس مع حلول صباح يوم الأحد 9 ديسمبر، تاركين أهلها خلفهم دون أدنى وسيلة للدفاع أمام المهاجمين. وهو ما دفع حسين الحسيني للتوجه فورًا إلى الإنجليز وتسليمهم المدينة، قبل أن يبدأ الأخيرون قصفًا شاملًا لها مع استمرار الظن بوجود القوات التركية داخل أسوارها.
إقرأ أيضاً :تركيا .. من آل عثمان إلى أردوغان ” تاريخ طويل بالدم والإرهاب
ومع حلول الساعة التاسعة صباحًا، اصطحب حسين أفندي ابن أخيه توفيق صالح الحسيني، ومفتشي الشرطة عبد القادر العلمي وأحمد شريف. إضافة إلى الشرطيين حسين العسلي وإبراهيم الزعنون. مع فريق من الشبان الفلسطينيين كان واحد منهم يحمل العلم الأبيض، إشارة الاستسلام. ثم خرجوا جميعًا من أبواب القدس باحثين عن قائد الجيش الإنجليزي المحاصر.
قرب الحدود الغربية للمدينة، التقت المجموعة المقدسية مصادفة برقيبين من الفرقة الـ19 البريطانية، جيمس سيدجويك، وفريديريك هيوركومب، كانا في الأصل في مهمة استطلاعية لدراسة تحصينات القدس. ولما علم الضابطان بسر وجود الفلسطينيين في تلك البقعة رفضا تسلم وثيقة التسليم. ولم يتسلمها سوى سي إف واطسون، قائد اللواء الـ180. وقد قرأ فيها التالي:
«منذ يومين كاملين والقدس الشريف يتعرض للقصف الذي امتدت بعض آثاره إلى الأماكن المقدسة في المدينة مثل كنيسة القيامة والمسجد الأقصى. وحرصًا من الحكومة العثمانية على الحفاظ على حرمة تلك الأماكن، فإنها قررت سحب عساكرها من المدينة نهائيًا حتى لا تتعرض للخراب، وكي يتمكن الرعايا المدنيين من العودة ارتيادها من جديد.
لقد أرسلت لكم ذلك التوضيح مع حضرة وكيل رئيس البلدية حسين بك الحسيني، مع الأمل في أن يعالج الأمر من قبلكم بالطريقة نفسها.
القدس المحتلة
8 – 9 ديسمبر من العام 1917».
بعد موافقة واطسون على محتوى الوثيقة، أمر بالتقاط صورة مع حسين الحسيني إضافة إلى علم الاستسلام الأبيض. ثم دخلت القوات الإنجليزية القدس في الساعة العاشرة والنصف من صباح ذات اليوم. وفي 12 ديسمبر، قام الجنرال الإنجليزي الشهير إدموند اللنبي، بدخول المدينة ماشيًا على قدميه من باب الخليل كما يفعل الحجاج المسيحيون.
على هذه الصورة المأساوية، انتهى الوجود العثماني في فلسطين بعد أربعمائة عام كاملة (1517 – 1917). وإذا كانت لحظة البداية في ذلك الوجود التركي قد اقترنت بإدخال القدس وفلسطين بل والعالم العربي بأسره في حالة من التكلس والجمود الحضاري، فإن نهايته اقترنت بتسليم ثالث أقدس المدن الإسلامية على الإطلاق إلى العدو دون مقاومة. وهو ما مهد السبيل الباب أمام بريطانيا كي تقيم الكيان الصهيوني فوق الأرض العربية في سلام، وبناء على «وعد بلفور» الذي كان قد صدر قبل شهر من التسليم العثماني للقدس (نوفمبر 1917).
دور العثمانيين في قيام إسرائيل
هل اقتصر دور العثمانيين في قيام إسرائيل على تلك اللحظة المخزية، التي تخلى فيها الأتراك عن شرفهم العسكري، وتركوا القدس فريسة للاستعمار، والصهيونية العالمية؟!!
لو كان العثمانيون اكتفوا بذلك الدور لكفاهم عارًا. ولكن التاريخ الذي لا نقرأه سوى قليل، ينبئنا بأن الدور التركي في قيام إسرائيل قد تخطى حادث تسليم القدس المأساوي، إلى الاشتراك في المسؤولية التاريخية عن تأسيس الكيان الصهيوني فوق الأرض العربية المغصوبة.
فمنذ ستينيات القرن الـ19، دأب سلاطين الدولة العثمانية على إصدار الفرمانات التي تخول للمنظمات الصهيونية التهجير الآمن لليهود إلى الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات فوقها. ولم تتوقف عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولا بناء المستوطنات حتى في عصر السلطان عبد الحميد الثاني الذي يحلو للإسلاميين في تركيا وفي العالم العربي ترديد رفضه القاطع أمام ثيودور هرتزل، إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
فـ«عبد الحميد» الذي ربطته علاقات وثيقة مع الملياردير الصهيوني إدموند روتشيلد، سمح للأخير بأن يكون راعيًا رسميًا للمستوطنات اليهودية في فلسطين. والمفكر المصري عبد الوهاب المسيري يقرر في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية» أنه «ما كان بوسع المستوطنات الأولى التي أقيمت في فلسطين الاستمرار لولا معونات روتشيلد، حيث وصل إنفاقه على المستوطنين خلال الفترة بين 1883 و 1899 (وهي فترة كان عبد الحميد الثاني سلطانًا خلالها) نحو 1.600.000 جنيه».
بل إن عبد الحميد سمح لروتشيلد في عام 1899، بإنشاء «جمعية الاستيطان اليهودي». وبلغ عدد المستوطنات التي أسسها روتشيلد في جميع أنحاء فلسطين عبر تلك الجمعية أكثر من 30 مستوطنة.
إذن كانت عمليات تهويد فلسطين جارية على قدم وساق، وبعلم العثمانيين، قبل أن يتم تسليم القدس للإنجليز دون قتال بسنوات بعيدة. والقارئ اليوم لتاريخ علاقة الأتراك بالحركة الصهيونية يدرك أن القائمين على الدولة العثمانية كانوا مدركين تماماً لنوايا الصهاينة ورعاتهم من الأوروبيين تجاه فلسطين وشعبها. وبدلًا من التصدي لها، فإنهم شاركوا فيها سلبًا، وهو ما اتضح بكثافة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.
في عام 1914، دخل العثمانيون الحرب مصطفين إلى جانب ألمانيا القيصرية ضد دول الحلف الثلاثي (بريطانيا، فرنسا، روسيا). وقد كان القيصر الألماني غليوم الثاني، واحدًا من الرعاة المسيحيين الكبار للقضية الصهيونية، وحلم تأسيس إسرائيل. وبدا ظاهرًا أنه في حال انتصار الحلف العثماني الألماني، فإن ألمانيا لن تكتفي بالحصول على مستعمرات في الشرق الأوسط دون معارضة تركية، بل إنها ستعمل بجهد على تحقيق الحلم الصهيوني أيضًا.
وقد ظلت الصهيونية العالمية حائرة بين دعم واحد من الطرفين المتحاربين حتى حسمت وقائع الحرب نفسها المسألة. فبعد بدايات مبشرة، بدأ الحلف العثماني الألماني في التراجع ابتداء من فشل الحملة التركية لغزو سيناء (حملة ترعة القناة 1915). ثم جاءت الثورة العربية الكبرى في عام 1916، وشروع الجنرال اللنبي في قيادة تجريدة عسكرية لطرد العثمانيين من بلاد الشام وفلسطين، ثم أخيرًا إصدار بريطانيا لوعد بلفور ليرجح كفة الإنجليز لدى الصهاينة.
المعركة بين الفلسطينيين والجيش العثماني
في عام 1917، اشتعلت المعارك على فلسطين بين قوات الجيش الرابع العثماني وبين قوات اللنبي. وخسر الأتراك بسرعة كلًا من غزة وبئر السبع. ولم يفكروا بعد تلك الهزائم سوى في أيسر الحلول، الانسحاب. وهو ما نتج عنه ذلك الفرار المضحك المبكي من القدس في صبيحة يوم التاسع من ديسمبر.
ولكن حتى بعد الانسحاب من القدس، فإن العثمانيين أبوا إلا استغلال علاقاتهم الطيبة بالصهيونية لصالحهم. وقد كان ظن قادة إسطنبول أن التلويح لليهود برعاية مستوطناتهم في فلسطين تمهيدًا لإنشاء إسرائيل. ففي يناير 1918، أي بعد أسابيع قليلة من تسليم القدس، استقبلت الخارجية الألمانية وفدًا ممثلًا عن المنظمات الصهيونية برئاسة أوتو فاربورغ، وأوتو هانتكي، وسلمتهما بيان الحكومة التركية لنشره بالصحف الأوروبية، وجاء فيه:
«نحن (أي الحكومة العثمانية) نرحب بالأقلية اليهودية العاملة على تطوير ثقافتها، وندعم أمنيتها في خدمة شخصيتها المستقلة في الدول التي يتمتع فيها اليهود بحياة مستقلة إلى حد كبير، ونبدي تفهمنا العميق لهم، واستعدادنا لدعمهم في مطلبهم هذا، وبخصوص الجهود المبذولة من اليهود ومن الصهيونية بشكل خاص في الاستيطان في فلسطين فإننا نؤكد على نية حكومة السلطنة العثمانية بالمعاملة الحسنة والدائمة للمستوطنات اليهودية الآخذة في الازدهار في فلسطين من خلال ضمان حرية الهجرة والعمل ضمن حدود القدرة الاستيعابية للبلد، وكذلك الإدارة المستقلة ضمن القوانين السائدة والتطوير الحر لثقافتهم وشخصياتهم».
لكن أيًا من ذلك لم يغير من الحقائق الجديدة على أرض الواقع، فالصهاينة أكثر ذكاء من أن يغيروا ولاءهم لبريطانيا بعد انتصار الأخيرة البين في ساحة الحرب، وبعد ظفرها بوعد بلفور. وبالتالي فإن الوعود العثمانية الجديدة للصهيونية ذهبت أدراج الرياح، ولم تفلح عودتهم عبرها إلى الشرق الأوسط من جديد. وهو ما تأكد في معاهدة لوزان التي سوت الحرب العظمى بصورة نهائية، ولم تمنح الأتراك إلا حدود دولتهم الحالية.
ولكن حتى بعد الانفصال التركي عن الشرق الأوسط، فإن اتصال الساسة الأتراك بالصهيونية لم يتوقف يومًا. ففي فترة الانتداب البريطاني بفلسطين، كانت تركيا تشرف على الهجرات اليهودية إلى الأراضي العربية. سواء من اليهود الساكنين بأراضيها، أو اليهود الوافدين من شرق أوروبا.
وعندما أعلن قرار تقسيم فلسطين في عام 1947، ثم أعلن قيام إسرائيل في العام التالي، كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تسارع للاعتراف بها. وفي العقود اللاحقة، ستبدأ علاقات بالغة الدفء بين الأتراك وإسرائيل دشنها رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، مع نظيره الإسرائيلي بن غوريون، فيما يعرف تاريخيا باسم «الميثاق الشبح». وهي سلسلة اتفاقات شفهية سرية تمت بين الطرفين في عام 1958، وكشف الستار عنها في منتصف الستينيات، واستهدفت التكامل الأمني والعسكري بين أنقرة وتل أبيب ضد التكتل العربي في مصر وسوريا.
مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل بعد تسليم القدس
ومع دخول الفلسطينيين في مفاوضات السلام مع إسرائيل بعد مؤتمر أوسلو بداية التسعينيات، تحولت تركيا من العمل السري مع الكيان الصهيوني إلى العمل العلني. وتعرف التسعينيات بحقبة «شهر العسل» عند التأريخ للعلاقات التركية الإسرائيلية، حيث شهدت في عام 1996 توقيع حزمة اتفاقات بين أنقرة وتل أبيب على صعيد الملفات العسكرية والاقتصادية والثقافية، تعتبر هي الأساس الذي يحكم الصلات الممتازة بين البلدين حتى في اللحظة الحالية، التي يحكم فيها تركيا حزب إسلامي المعتقد والتوجه، هو حزب العدالة والتنمية.
فطوال الفترة الممتدة من عام 2002 وحتى اليوم، يبدو الرئيس التركي رجب أردوغان مخلصًا للعلاقات التي دشنها أسلافه مع بإسرائيل، بل وحتى ساعيًا إلى تعزيزها، خاصة على المستويين العسكري والاقتصادي. هذا مع الاعتراف بلمسة أردوغان الإضافية الخاصة على تلك العلاقات، التي تتمثل في عنتريات لسانية لا تتوقف تجاه تل أبيب. هدفها فقط التقرب إلى العالم العربي، والترويج لمشروع العثمانيين الجدد فيه.
تسليم العثمانيون القدس للصهاينة
فإذا كان الأمر كذلك، هل يمكن النظر إلى حادثة تسليم القدس باعتبارها حدثًا تاريخيًا يرتبط فقط بعصره؟!. الإجابة حتمًا بلا. فاليوم الذي سلم فيه عزت بك القدس للصهيونية العالمية، سبقته عقود من الرعاية العثمانية للمشروع الصهيوني في فلسطين. ثم تلته عقود أخرى من العلاقات التركية الإسرائيلية الحميمية لم تتوقف حتى اليوم. وكان هو الرابط بينهما، والمنبئ بحقيقة رأي الأتراك في عدالة قضية فلسطين، الذي يجب ألا تشوش عليه حنجوريات أردوغان الفارغة.