أوجه الحقيقة – إثيوبيا
كانت إثيوبيا بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين، إلى جانب كلا من تركيا وإيران، الأعضاء الذين تشكلت منهم الاستراتيجية الإسرائيلية المعروفة باسم الرمح الثلاثي، والتي قصد بها الكيان الصهيوني الفكاك من الحصار الجغرافي العربي المفروض عليها من قبل مصر وسوريا والعراق، بحصار عكسي يقوم به الإثيوبيون والإيرانيون والأتراك ضد العرب في القاهرة ودمشق وبغداد.
كان الرمح الثلاثي قد طرح للمرة الأولى قبل شهور قليلة من إعلان دولة إسرائيل في مايو من العام 1948، من قبل باروخ أوزيل، عضو الكنيست الإسرائيلي عن الحزب الليبرالي، والذي اقترح تحالف الكيان الصهيوني مع تركيا وإيران، إضافة إلى الأقليات غير العربية أو غير المسلمة في الشرق الأوسط، مثل الموارنة الكاثوليك في لبنان، العلويون في شمال سوريا، اليونانيون، الأرمن، وأخيرا الأخلاط الإثنية في منطقة الجزيرة الفراتية من الآشوريين والأكراد. وذلك قبل شهور من إعلان قيام دولة إسرائيل.
ورغم توقف تلك الخطة الطموحة في وقتها، بسبب صعوبات تقنية في التنفيذ، فإن ظروف الصراع الإسرائيلي في الخمسينيات، دفعت قادة الدولة العبرية إلى إعادة التفكير من جديد في إنفاذها.
ففي العام 1957، قام رؤوفين شيلواح، مؤسس شبكة الاستخبارات الإسرائيلية الدولية (الموساد) وأول رئيس لها، بطرح فكرة باروخ أوزيل مرة أخرى. وفي اجتماع عقد بوزارة الخارجية الإسرائيلية في 11 سبتمبر من العام 1957، بعد وقت قصير من تعيينه مستشارا خاصا لوزير الخارجية الإسرائيلي، ناقش شيلواح إمكانية بدء التحالف من تركيا، والتي اعتبرها أكثر الأعضاء قربا من إسرائيل في نظرية باروخ أوزيل، أولا بسبب العلاقات التاريخية الممتازة بين تركيا وقادة الصهيونية من جهة، وبسبب تقاسم الطرفين التركي والإسرائيلي المخاوف من صعود حكومة سورية في دمشق، تكون موالية للاتحاد السوفيتي من جهة أخرى.
في تلك اللحظة تحديدا، عاد صاحب الفكرة الأصلية باروخ أوزيل إلى الترويج لها، ولكن بعد إضافة حليف جديد إليها هو إثيوبي، معتبراً أن حلفاً بين إسرائيل وبين تركيا المتاخمة لسوريا والعراق من الشمال، وإيران المتاخمة للعراق من الشرق، وإثيوبيا المؤثرة على حصة مصر من مياه النيل في الجنوب، من شأنه أن يفرض حصارا على العرب، يتركهم عاجزين عن القيام بهجوم عسكري على إسرائيل. وبسبب حقيقة هذا الحصار الذي سيؤدي إليه التحالف، أطلق أوزيل عليه اسم التحالف المحيطي، أي الذي يحيط بالعرب من ثلاث جهات. كما منحه اسما آخر هو تحالف الرمح الثلاثي، والذي تكون أطرافه المدببة الثلاثة هي أنقرة وأديس أبابا وطهران، موجهة إلى صدور دمشق والقاهرة وبغداد على التوالي.
بالنسبة لإثيوبيا تحديدا، استمر عمل التحالف المحيطي بينها وبين إسرائيل من نهاية الخمسينيات إلى نهاية الثمانينيات. وكان المقابل الذي ارتضاه الإثيوبيون لفتح أراضيهم أمام العمل الاستخباراتي الإسرائيلي، هو تكفل تل أبيب بتطوير الترسانة العسكرية الإثيوبية، وكذلك الدعم السياسي المطلق لأديس أبابا في أشد لحظاتها اضطرابا.
فقد كان المستشارون العسكريون من إسرائيل مثلا، هم الذين قاموا بتدريب فرق المظلات الإثيوبية، كما دربوا فرق مكافحة التمرد التي تنتمي إلى الفرقة الخامسة المعروفة باسم (نيبال بال) أي فرقة الشعلة.
وفي ديسمبر من العام 1960، قامت فرقة من الجيش الإثيوبي بتدبير انقلاب ضد إمبراطور إثيوبيا هالي سيلاسي الأول أثناء زيارته إلى البرازيل، فكان الموساد الإسرائيلي هو الذي مكن سيلاسي من التواصل مع الجنرال آبي قائد الجيش الإثيوبي، وأقنعه بالبقاء مع قواته في صف الإمبراطور الذي عاد إلى أديس أبابا وأعلن فشل الانقلاب ضده رسميا.
في الستينيات أيضا، بدأت إسرائيل في تقديم الدعم لإثيوبيا في صراعها ضد جبهة التحرير الإريترية، والتي كانت أديس أبابا تنظر إليها باعتبارها تهديدا عربيا لها. وعينت تل أبيب لذلك مستشارا عسكريا من لدنها لمساعدة الحاكم الإثيوبي العام لإريتريا، أسراتي ميدهين كاسا. وقد عمل هذا المستشار الإسرائيلي رئيسا لمدرسة عسكرية في مدينة ديكاماري، درب فيها فرق الكوماندوز الإثيوبية على عملياتها ضد جبهة التحرير الإريترية.
بحلول العام 1966، أصبح هناك نحو مائة مستشارا عسكريا إسرائيليا في إثيوبيا. وفي العام 1971، اتهمت أديس أبابا بالسماح لتل أبيب بتأسيس قواعد عسكرية لها فوق بعض الجزر في البحر الأحمر، وهو ما نفاه الإثيوبيون وقتها. وهو ما تكرر خلال اجتماع منظمة الوحدة الإفريقية الذي انعقد في إثيوبيا العام 1973، عندما اتهمت ليبيا قادة إثيوبيا بالسماح بوجود عسكري إسرائيلي في البحر الأحمر. وفي ذلك الوقت، طالب الرئيس الجزائري “هواري بو مدين” إثيوبيا بقطع علاقاتها مع إسرائيل، واعدا بوقف الدعم العربي لجبهة التحرير الإريترية.
إقرأ أيضاً: أثيوبيا من المجاعة إلى الإقلاع
أمام هذا، طالب رئيس الوزراء الإثيوبي في ذلك الوقت “أكليلو هابتي”، أمام برلمان بلاده التصويت على قطع العلاقات مع إسرائيل، ولكن الإمبراطور الإثيوبي استخدم حق الفيتو لإبطال الخطوة. ولكن نتيجة اندلاع حرب أكتوبر من العام 1973، والتي استطاع فيها الجيش المصري العبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس، اضطر الإمبراطور لسحب الفيتو الخاص به في 23 أكتوبر من نفس العام، بعد أن هدد من القوى النفطية في الخليج العربي بقطع إمدادات البترول عن أديس أبابا، على شاكلة ما حدث مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي.
قطعت على تلك الصورة العلاقات الإثيوبية الإسرائيلية للمرة الأولى بشكل علني، ولكنها بقيت في الحقيقة سراً. فقد استمر الدعم العسكري الإسرائيلي للإثيوبيين خاصة في عهد حكومة الانقلاب العسكري المعروفة باسم دريج (أو حكومة إثيوبيا الاشتراكية العسكرية) التي حكمت البلاد من العام 1974 وحتى العام 1987، حيث أقامت مجموعة صغيرة من الخبراء العسكريين الإسرائيليين باستمرار في أديس أبابا خلال تلك الفترة.
وفي العام 1978، عندما صرح موشيه ديان وزير الخارجية الإسرائيلي بأن بلاده تقدم الدعم العسكري لإسرائيل، رد رئيس الوزراء الإثيوبي مانغيستو هايلي ماريام على ذلك بطرد كل الإسرائيليين من إثيوبيا خوفا على علاقات بلاده مع الحكومة الليبية، وكذلك مع المجموعات الراديكالية في جنوب اليمن. وكان ذلك تمويها إثيوبيا، استمر في الخلف منه التعاون العسكري مع تل أبيب.
ففي العام 1983، قدم الجيش الإسرائيلي تدريباً لنظيره الإثيوبي على الاتصالات العسكرية. وفي العام التالي، درب الحرس الرئاسي في أديس أبابا على يد ضباط من تل أبيب. كما خدم إسرائيليون من خبراء التقنية في الشرطة الإثيوبية. وقامت جبهة التحرير الإريترية بالإبلاغ عن تلقي حكومة مانغيستو مساعدات عسكرية من إسرائيل بنحو 83 مليون دولار أمريكي. وفي العام 1985، حصلت أديس أبابا من الصهاينة على معدات عسكرية سوفيتية كانت قد وقعت في قبضة الجيش الإسرائيلي أثناء اجتياحه للبنان في العام 1982، إضافة إلى 300 خبير عسكري إسرائيلي بعثوا إلى إثيوبيا، في مقابل 38 طيار مقاتل إثيوبي سافروا إلى إسرائيل للتدرب.
استمرت تلك التفاهمات السرية حاكمة للعلاقات الإسرائيلية الإثيوبية حتى العام 1989، عندما أعلن عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسميا. وكان التعاون بين الطرفين في ذلك الوقت قد أصبح يشتمل على عناصر جديدة أبرزها تمويل أديس أبابا للدولة العبرية بالمهاجرين الإثيوبيين من يهود الفلاشا (بيتا إسرائيل)، ككتلة بشرية كانت تل أبيب تحتاجها لأغراض ديموغرافية وعسكرية.